سورة الصافات - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الصافات)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {أَذَلِكَ خيرٌ نُّزلاً أم شجرةُ الزقوم} أي: أنعيم الجنة وما فيها من اللذات، والطعام، والشراب، خيرٌ نُزُلاً أم شجرة الزقوم؟ النُزل: ما يُقَدم للنازل من الرزق. و {نزلاً}: تمييز، وفي ذكره: تنبيه على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يُقدم للنازل، ولهم من وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام، وكذلك الزقوم لأهل النار. قال ابن عطية: في البلاد الجدبة المجاورة للصحارى شجرةٌ، مُرَّة، مسمومة، لها لبنٌ، إن مسَّ جسم أحد تورَّم ومات منه، في غالب الأمر، تُسَمَّى شجرة الزقوم. والتزقُّم: البلعُ على شدة وجهد. اهـ. وفي الحديث: «لو أن قطرةً من الزقوم قُطرَتْ في بحار الدنيا لأفسدتْ على أهل الأرض معايشهم. فكيف بمَن يكون الزقومُ طعامُه» وقال ابن عرفة: هذه الشجرة يحتمل أن تكون واحدة بالنوع، فيكون كل جهة من جهات جهنم فيها شجرة، أو: تكون واحدة بالشخص. اهـ.
{إِنا جعلناها فتنةً للظالمين} محنةً وعذاباً لهم في الآخرة، وابتلاء لهم في الدنيا. وذلك أنهم قالوا: كيف تكون في النار شجرة، والنار تحرق الشجر؟ ولم يعلموا أنَّ مَنْ قدر على خلق حيوان يعيش في النار ويتلذّذ بها وهو السمندل كيف لا يقدر على خلق شجر في النار، وحفظه من الإحراق؟ {إِنها شجرةٌ تخرجُ في أصل الجحيمِ}، قيل: منبتها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها، وهذا يؤيد أنها واحدة بالشخص.
{طَلْعُها} أي: حملها {كأنه رؤوس الشياطين} الطلع للنخلة، فاستعير لما يطلع من شجرة الزقوم من حملها، وشُبِّه برؤوس الشياطين للدلالة على تناهيه في الكراهة، وقُبح المنظر؛ لأن الشيطان مكروه مستقبَح في طباع الناس؛ لاعتقادهم أنه شرّ محض. وقيل: الشياطين: حيَّات هائلة، قبيحة المنظر، لها أعراف يقال لها شياطين. وقيل: شبه بما استقر في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقُبحها، وإن كانت لا ترى، كما شبهوا سنان الرماح بأنياب أغوال، كما قال امرؤ القيس:
أَيَقتُلُني والمشْرَفيُّ مُضَاجِعي *** ومَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كأنيابِ أغْوَالِ
{فإِنهم لآكلونَ منها} أي: من طلع تلك الشجرة، {فمالِئُون منها البطونَ} مما يبلغهم من الجوع الشديد، فيملؤون بطونهم منها مع تناهي بشاعتها، {ثم إِنَّ لهم عليها} على أكلها، أي: بعدما شَبِعوا منها، وغلبهم العطش، وطال استقاؤهم، {لَشَوْباً من حميم} أي: لشراباً من غساق، أو: حديد، مشوباً بماء حار، يشوي وجوههم، ويقطع أمعاءهم، في مقابلة ما قال في شراب أهل الجنة: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} [المطففين: 27] وأتى ب ثم؛ لما في شرابهم من مزيد البشاعة والكراهة؛ فإِنَّ الزقوم حار محرق، وشرابهم أشد حرًّا وإحراقاً.
{ثم إِن مرجِعَهُم لإِلى الجحيم} أي: إنهم يُخرجون من مقارهم في الجحيم وهو الدركات التي أُسْكِنُوها إلى شجرةَ الزقوم، فيأكلون منها إلى أن يتملَّوا.
ويشربون بعد ذلك، ثم يرجعون إلى دركاتهم، كما تورد الإبل، ثم ترد إلى وطنها. ومعنى التراخي في ذلك ظاهر.
ثم ذكر سبب عذابهم، فقال: {إِنهم أَلْفَوا آباءَهُم ضالِّينَ فهم على آثارهم يُهْرَعُون} علّل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد بتقليد آبائهم في الضلال، وترك اتباع الدليل. والإهراع: الإسراع الشديد. كأنهم يزعجون ويُحثّون حثّاً. وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى اتباعهم من غير توقف ولا نظر. {ولقد ضلَّ قبلهم} قبل قومك قريش {أكثرُ الأولين} يعني الأمم الماضية، بالتقليد وترك النظر. {ولقد أرسلنا فيهم مُّنذِرِين} أنبياء، حذّروهم العواقب. {فانظر كيف كان عاقبة المنذَرِين} الذين أنذروا، وحذّروا، فقد أُهلكوا جميعاً، {إِلا عبادَ اللهِ المخلصين} أي: إلا الذين آمنوا، وأخلصوا دينهم لله، أو: أخلصهم الله لدينه، على القراءتين.
الإشارة: إذا قامت القيامة انحاز الجمال كله إلى أهل الإيمان والإحسان، وانحاز الجلال كله إلى أهل الكفر والعصيان، فيرى المؤمنُ من جماله تعالى وبره وإحسانه ما لا تفي به العبارة، ويرى الكافر من جلاله تعالى وقهره ما لا يكيف. وأما في دار الدنيا فالجمال والجلال يجريان على كل أحد، مؤمناً أو كافراً، كان من الخاصة أو العامة، غير أن الخاصة يزيدون إلى الله تعالى في الجلال والجمال؛ لمعرفتهم في الحالتين. وأما العامة فلا يزيدون إلا بالجمال؛ لإنكارهم في الجلال. والمراد بالجلال: كل ما يقهر النفس ويذلها. والله تعالى أعلم.


يقول الحق جلّ جلاله: {ولقد نادانا} أي: دعانا {نوحٌ} حين أيس من قومه بقوله: {أَنِّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} [القمر: 10] أو: دعانا؛ لِنُنجيه من الغرق، {فَلَنِعْمَ المجيبون} أي: فأجبناه أحسن الإجابة، ونصرناه على أعدائه، وانتقمنا منهم بأبلغ ما يكون، فوالله لَنِعْمَ المجيبون نحنُ، فحذف القسم؛ لدلالة اللام عليه. وحذف المخصوص، والجمع؛ دليل العظمة والكبرياء. {ونجيناه وأهلَه} ومَن آمن به وأولاده المؤمنين {من الكَرْبِ العظيم} وهو غمّ الغرق، أو: إذاية قومه، {وجعلنا ذريتَه هم الباقين} وقد فني غيرهم. قال قتادة: الناسُ كلهم من ذرية نوح، وكان لنوح عليه السلام ثلاثة أولاد: سام وهو أبو العرب وفارس والروم وحام وهو أبو السودان، من المشرق إلى المغرب ويافث وهو أبو الترك ويأجوج ومأجوج وقد نظمه بعضهم، فقال:
العرب والروم وفارس اعلمن *** أولاد سام فيهم الخير كَمَن
من نسل حام نشا السودان *** شرقاً وغرباً ذا له برهان
يأجوج مأجوج من الصقالبة *** ليافث لا خير فيهم قاطبه
{وتركنا عليه في الآخِرِين} أي: وأبقينا عليه الثناء الحسن في الأمم الآخِرِين، الذين يأتون بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة، {سلامٌ على نوح}: مبتدأ وخبر، استئناف، {في العالمين} يعني: أنهم يُسلمون عليه تسليماً، ويدعون له، أي: ثبتت هذه التحية فيهم، ولا يخلو أحد منهم منها، كأنَّ الله أثبت التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين، يسلّمون عليه عن آخرهم. {إِنا كذلك نجزي المحسنين} فنُكرمهم ونُحييهم، وهو تعليل لما فعل بنوح من التكرمة السنية، بأنه مجازاة له على إحسانه، {إِنه من عبادنا المؤمنين} علّل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً؛ ليريك جلاله محلّ الإيمان. {ثم أغرقنا الآخَرِين} أي: الكافرين.
ذكر في كتاب حياة الحيوان، عن القشيري: أن العقرب والحية أتيا نوحاً عليه السلام فقالتا: احملنا معك، ونحن نعاهدك ألا نضر أحداً ذكرك، فحملهما. فمَن قرأ، حين يخاف مضرتهما، حين يمسي وحين يصبح: سلام على نوح في العالمين، ومحمد في المرسلين، إنا كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين، ما ضرتاه. اهـ. وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: «مَن قال حين يُمسي وحين يُصبح: أعوذ بكلمات الله التامات من شرِّ ما خَلَقَ، لم يضره شيء».
الإشارة: إذا تحقق الإيمان والإحسان في عبد أُعطي ثلاث خصال: نفوذ الدعوة، والثناء الحسن بعده، والبركة في الذرية، كل ذلك مقتبس من قضية نوح عليه السلام.


قلت: {أَئِفكاً}: مفعول له، و{آلهة}: مفعول {تُريدون}، أي: أتريدون آلهة من دون الله إفكاً وزُوراً. وإنما قدَّم المفعول به على الفعل للعناية له، وقدّم المفعول له على المفعول به؛ لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم، ويجوز أن يكونَ {إفكاً} مفعولاً به، أي: أتريدون إفكاً. ثم فسّر الإفك بقوله: {آلهة دون الله} على أنها إفك في نفسها، أو: حالاً، أي: أتريدون آلهة من دون الله آفكين.
يقول الحق جلّ جلاله: {وإِنَّ من شيعتهِ} أي: نوح {لإِبراهيمَ} أي: ممن شايعه على أصول الدين، وإن اختلفا في الفروع، أو: شايعه على التصلُّب في دين الله، ومصابرة المكذِّبين. وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة، وما كان بينهما إلا نبيَّان: هود، وصالح. {إِذْ جاء ربَّه}: متعلق بما في الشيعة من معنى المشايعة، أي: وممن شايعه على دينه إبراهيم، حين جاء ربه {بقلبٍ سليمٍ} من الشرك، أو: من آفات القلوب، ومعنى المجيء بقلبه ربه: أنه أخلص لله قلبه، وعلم ذلك منه.
{إِذْ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون} {إذ}: بدل من الأولى، أو: ظرف لجاء، أو: لسليم، {أئِفكاً آلهةً دون الله تريدون} أتريدون آلهة تعبدونها من دون الله إفكاً وزوراً وباطلاً. {فما ظَنُّكُم بربِّ العالمين} يفعل بكم إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره، فما تقولون، وكيف بكم في مقام الخجل الذي بين أيديكم، وإن كنتم اليوم غائبين عنه؟ أو: أيّ شيء ظنكم بمَن هو حقيق بالعبادة؛ لكونه رب العالمين، حتى تركتم عبادته، وأشركتم معه غيره، أَو أمنتم عذابه؟
الإشارة: لا يكون العبد إبراهيميًّا حنيفيًّا حتى يقدس قلبه مما سوى الله، ويرفض كلَّ ما عبده الناسُ من دون الله، كحب الدنيا، والرئاسة، والجاه، فيجيء إلى الله بقلب سليم، أي: مقدس من شوائب الطبيعة، فهو سالم مما دون الله؛ لاتصاله بالله. قال القشيري: {بقلب سليم} لا آفة فيه. ويقال: لديغٍ مِن محبة الأغيار، أو: من الحظوظ، أو: من الاختيار والمنازعة. والله تعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7